8 أشكال للإيذاء الذاتي تعقد حياتك في الخفاء

الإيذاء الذاتي ليس دائماً على هيئة جروح جسدية ظاهرة أو محاولات مباشرة لإيذاء الجسد، بل قد يتخذ أشكالاً خفية ومعقدة، تُمارس يومياً من قبل الأفراد دون وعي منهم بأنها نوع من أنواع الإيذاء النفسي والنفسي-الجسدي. هذه الأشكال من الإيذاء تُعدّ أكثر شيوعاً مما نظن، إذ تختبئ خلف سلوكيات نمطية وأفكار سلبية تتغلغل في الحياة اليومية فتؤثر سلباً على جودة الحياة، وتُسهم في خلق دوامة من التوتر والعزلة والاضطراب. الإيذاء الذاتي الخفي، رغم عدم وضوحه، هو عدو صامت ينخر الصحة النفسية والعاطفية شيئاً فشيئاً.

في هذا المقال، سيتم تسليط الضوء على 8 أشكال خفية للإيذاء الذاتي، مع شرح مفصل لكيفية تأثيرها على الأفراد، وطرق تعرفهم على وجودها في سلوكهم، وتأثيراتها الطويلة الأمد على الصحة النفسية والجسدية.

1. التقليل المستمر من الذات (النقد الداخلي اللاذع)

يعدّ النقد الذاتي المفرط أحد أبرز أشكال الإيذاء النفسي الذاتي، إذ يتحول الصوت الداخلي إلى أداة هدم مستمرة تحطم الثقة وتقلل من قيمة الإنجازات. يتكرر هذا السلوك بصيغ مثل: “أنا لا أستحق النجاح”، أو “أنا غبي، لماذا ارتكبت هذا الخطأ؟”، وهي جُمل قد يظن الشخص أنها مجرد انفعالات عابرة، لكنها تصبح مع الزمن نمطاً ثابتاً يرسّخ مشاعر الدونية والعجز.

هذا النوع من الإيذاء يرتبط غالباً بتجارب الطفولة أو البيئة الأسرية التي تعتمد أسلوب المقارنة أو النقد الجارح، مما يخلق في النفس نمطاً من الحديث السلبي يرافق الشخص في جميع مراحل حياته. الأثر التراكمي لهذا السلوك يظهر في انخفاض تقدير الذات، وفقدان القدرة على اتخاذ القرارات، والخوف الدائم من الفشل أو الرفض.

2. المماطلة المزمنة وتخريب الذات عبر التسويف

التسويف ليس دائماً نتيجة كسل أو نقص في الإرادة، بل قد يكون شكلاً متقدماً من أشكال إيذاء الذات. فالفرد الذي يؤجل باستمرار المهام الضرورية لتحقيق أهدافه، أو يُضيّع الفرص المتاحة أمامه عمداً أو لا شعورياً، يضع نفسه في دائرة من الفشل والإحباط المزمن.

غالباً ما يكون هذا السلوك ناتجاً عن خوف داخلي من النجاح، أو من تحمل المسؤولية، أو بسبب الشعور بعدم الجدارة. هذا التخريب الذاتي المقنّع يجعل الشخص يبدو ظاهرياً غير مبالٍ، بينما في العمق، يعيش صراعاً داخلياً مع الذات وصورة مهتزة عن قدراته.

3. العلاقات السامة والتمسك بها

الانخراط في علاقات مؤذية أو البقاء في علاقات غير صحية تمتص الطاقة النفسية هو شكل من أشكال الإيذاء الذاتي المستتر. سواء كانت العلاقة مع شريك عاطفي، صديق، أو حتى أحد أفراد العائلة، فإن استمرار الفرد في تعريض نفسه للإهانة، التقليل من الشأن، التجاهل العاطفي، أو الابتزاز النفسي، يعكس افتقاداً للشعور بالاستحقاق.

هذا النوع من العلاقات يساهم في تعزيز الشعور بعدم الأمان، ويُضعف من البنية النفسية للفرد، ويغذّي الأنماط السلبية المتراكمة من الطفولة أو التجارب السابقة. إن التمسك بعلاقة مدمّرة ليس تضحية، بل إيذاء نفسي عميق.

4. الإدمان المقنّع: الطعام، العمل، التكنولوجيا

ليس الإدمان دائماً مرتبطاً بالمخدرات أو الكحول، بل قد يظهر في أشكال أكثر قبولاً اجتماعياً، مثل الإفراط في تناول الطعام، العمل لساعات طويلة دون راحة، أو الاستخدام القهري للأجهزة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.

هذه الأنماط تُخفي خلفها محاولات للهروب من الألم الداخلي، أو من مواجهة المشاعر غير المرغوب فيها، مما يؤدي إلى إضعاف التوازن النفسي والجسدي. الإدمان هنا يُستخدم كقناع، لكن في الجوهر هو محاولة لا واعية لإيذاء الذات عبر استنزاف الطاقات النفسية.

5. رفض الرعاية الذاتية وإهمال الصحة

عدم الاعتناء بالجسد والعقل هو أحد أكثر الأشكال الصامتة لإيذاء الذات. فقد يظن البعض أن تجاهل الألم الجسدي، أو النوم لساعات قليلة، أو عدم الالتزام بنظام غذائي صحي هو أمر عادي، لكن هذا الإهمال المتكرر يعبّر عن قناعة داخلية بعدم الاستحقاق أو انعدام القيمة الذاتية.

في بعض الحالات، يتحول هذا الإهمال إلى شكل من أشكال العقاب الذاتي، حيث يعاقب الفرد نفسه على أخطائه أو إخفاقاته من خلال رفض العناية بجسده وصحته النفسية، مما يؤدي إلى ظهور أمراض مزمنة واضطرابات مزاجية شديدة.

6. العيش في دور الضحية بشكل دائم

التشبث بدور الضحية هو سلوك دفاعي، لكنه يتحول مع الوقت إلى آلية نفسية مؤذية، تعيق الفرد عن النمو والتطور. الشخص الذي يرى نفسه ضحية في كل موقف، يرفض تحمل المسؤولية عن اختياراته، ويُبقي نفسه محصوراً في حالة من العجز الدائم.

هذا الدور يُغذّي مشاعر الكراهية للذات، ويمنع تكوين علاقات صحية مع الآخرين، ويُسهم في إعادة إنتاج التجارب المؤلمة في الحاضر. التماهي مع الضعف ليس شكلاً من أشكال الحماية، بل هو شكل من أشكال الإيذاء المتكرر للنفس.

7. الهوس بالكمالية (Perfectionism)

الكمالية المفرطة لا تعني السعي للتفوق فقط، بل تشير إلى هوس دائم بعدم ارتكاب أي خطأ، وعدم القبول بأي مستوى من الأداء إلا الكامل. هذا السلوك غالباً ما يكون مدمّراً، إذ يُجهد النفس والعقل بشكل يفوق الاحتمال، ويحوّل الإنجاز إلى عبء دائم.

يرتبط هذا الشكل من الإيذاء برغبة داخلية لإرضاء الآخرين، والخوف من النقد، والرغبة في الهروب من الشعور بالنقص. الكمالية تُحوّل الحياة إلى سباق لا نهاية له، تُقاس فيه القيمة الذاتية بالنتائج فقط، وليس بالجهد أو التطور.

8. الانفصال العاطفي (Emotional Numbing)

تجنّب المشاعر أو دفنها عميقاً خوفاً من الألم هو شكل متطور من أشكال إيذاء الذات. هذا الانفصال العاطفي قد يظهر في صورة برود في العلاقات، عدم التفاعل مع الأحداث المؤثرة، أو إنكار الحزن والغضب.

الانفصال العاطفي ليس دليلاً على القوة، بل هو درع مزيف يخفي خلفه صدمة نفسية أو تجربة مؤلمة لم يتم التعامل معها. هذا النوع من الإيذاء يُضعف القدرة على التعاطف، ويعزل الشخص عن ذاته وعن الآخرين، ويُفضي في النهاية إلى حالات من الاكتئاب والاغتراب الداخلي.

جدول توضيحي لأشكال الإيذاء الذاتي الخفي وتأثيراتها

الختام

الإيذاء الذاتي الخفي هو سلوك نفسي عميق ومعقّد، يتجاوز الصور النمطية المعروفة، ويتجلى في تفاصيل الحياة اليومية، في طريقة التعامل مع الذات، وفي نمط العلاقات الشخصية والمهنية. الاعتراف بهذه الأشكال واستيعاب وجودها هو الخطوة الأولى نحو التحرر منها. الإصغاء إلى الذات، واستبدال السلوكيات المؤذية بأخرى صحية، والسعي للحصول على دعم نفسي أو اجتماعي عند الحاجة، يشكّل بداية رحلة التعافي الحقيقية.

المراجع:

• Neff, Kristin. Self-Compassion: The Proven Power of Being Kind to Yourself. William Morrow, 2011.

• van der Kolk, Bessel. The Body Keeps the Score: Brain, Mind, and Body in the Healing of Trauma. Penguin Books, 2015.